- Call Us
+357 984538
- We are Open
Every day 9:00am -6:00pm
- e-mail us
e-mail us
لقد شرف الله عز وجل أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها أكثر الأمم اهتمامًا وإتقانًا بحفظ العلم وضبطه وتوثيقه، فلم يُعرف في الأمم السابقة ما ظهر في الأمة المحمدية من العلوم المختصة في توثيق النص الشرعي وضبطه ولم يكن في الأمم السابقة هذا الجمع الغفير من العلماء والحفاظ الذي تعاقبوا على هذه الأمة منذ البعثة المحمدية ممن يحفظون كتاب الله وحديث رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل إليه، فكان بهم حفظ الدين وحمايته من الشوائب والدسائس ولجم العابثين والمتقولين على دين الله، وقد قال التابعي الجليل عبدالله بن المبارك رحمه الله: (الإسناد من الدين فلولا الإسناد لقال من شاء ما شاء) فليس مستغربًا تلك المكانة الرفيعة التي حظي بها العلماء بين المسلمين عامة.
اعتمادًا على ما سيق ءانفًا نرى جليًا أن إحدى السمات والمزايا التي لا بد أن يتصف بها العالم الذي لنا أن نأخذ منه علم الدين هو وجود إسناد له في العلوم الشرعية التي يعلمها ويدرسها، فعلم الدين ليس فكرة مستحدثة ولا علمًا مبنيًا على التجربة بل هو علمٌ مستقى من النصوص الشرعية، من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وكلاهما وحيٌ، فلا بد أن يكون المتصدر لتعليم علم الدين قد تلقى هذا العلم عمن تلقاه ممن قبله إلى أن يصل الإسناد إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا علمهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
ولأن جمعيتنا أنشئت في المقام الأول لنشر العلوم الشرعية من عقيدة وفقه على طريقة أهل السنة والجماعة، فلا بد إذًا أن يكون لنا مرجع وسندٌ نتصل بواسطته بالسلسلة الذهبية من علماء وفقهاء ومجتهدين تناقلوا هذا العلم الثمين جيلًا فجيلًا، وقد يسر الله لنا أن نتعلم علم الدين على يد أحد علماء الأمة الإسلامية المعاصرين المعروف بسعة علمه وسنده المتصل إلى علماء الأمة الأعلام في القرءان والحديث والفقه، وهو الإمام الحافظ المجتهد الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله، ويسرنا إحاطتكم بتعريف موجز بهذا العالم الكبير وسيرته العلمية المباركة.
هو العالم الجليل المحدث الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف الشيبي العبدري القرشي نسبًا الهرري موطنًا المعروف بالحبشي رحمات الله عليه، ولد في مدينة هرر حوالي سنة 1328هـ – 1910م ، ونشأ في بيت متواضع محبا للعلم ولأهله فحفظ القرءان الكريم استظهارا وترتيلا وإتقانًا وهو قريب العاشرة من عمره ثم أقرأه والده كتاب المقدمة الحضرمية في فقه السادة الشافعية وغيرها من كتب الفقه وحفظ عددا من المتون في مختلف العلوم الشرعية وهو ما زال صغيرا ثم رحل في طلب العلم في بلده وما جاوره وتلقى عن الكثير من علماء بلده من أشهرهم الشيخ أحمد عبدالسلام الجبرتي، وساعده ذكاؤه وحافظته القوية على التعمق في الفقه الشافعي وأصوله وكذلك الشأن في الفقه المالكي والحنفي والحنبلي ثم أولى علم الحديث اهتمامه رواية ودراية فحفظ الكتب الستة وغيرها بأسانيدها وأجيز بالفتوى ورواية الحديث، ثم رحل إلى مكة المكرمة بعد أن كثر تقتيل العلماء في بلده وذلك حوالي سنة 1369هـ – 1949م فتعرف على عدد من علمائها وجمعته بهم صداقة وطيدة، وكان منهم الشيخ المحدث القارئ أحمد عبد المطلب الحبشي شيخ القراء في الحرم المكي الشريف الذي أخذ عنه القراءات الأربعَ عشرة، قراءة وسماعًا وإجازة، ثم رحل للمدينة المنورة والتقى بعلمائها ولازم مكتباتها ناهلا منها ومنقبا بين أسفارها وبقي في المدينة مجاورا سنة.
كَانَ مِن دَأبِهِ تَعلِيمُ تَلَامِيذِهِ تَركَ الدُّنيَا وَالعَمَلَ لِلآخِرَةِ مَعَ الزُّهدِ فَيَقُولُ لَهُم (العَاقِلُ مَن كَانَ يَومُهُ أَحسَنَ مِن أَمسِهِ، وَغَدُهُ أَحسَنَ مِن يَومِهِ، وَأُوصِيكُم بِتَركِ التَّنَعُّمِ، لِأَنَّ أَنبِيَاءَ اللهِ وَأَولِيَاءَهُ يَتَجَنَّبُونَ التَّنَعُّمَ، وَلَو كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِم مِنَ المَالِ مَا يَكفِي وَيَفِيضُ).
وَكانَ العَلَّامَةُ الشَّيخُ عَبدُ اللهِ الهَرَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ عَارِفًا بِاللهِ، شَدِيدَ الوَرَعِ، صَاحِبَ عِبَادَةٍ، كَثِيرَ الذِّكرِ، يَشتَغِلُ بِالعِلمِ وَالذِّكرِ مَعًا، لَا تَكَادُ تَجِدُ لَهُ لَحظَةً إِلَّا وَهُوَ يَشغَلُهَا بِقِرَاءَةٍ أَو ذِكرٍ أَو تَدرِيسٍ أَو وَعظٍ وَإِرشَادٍ، فَكانَ يَقُولُ: (عَلَامَةُ حُبِّ اللهِ تَعَالَى هُوَ اتِّبَاعُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَمَن اتَّبَعَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا اتِّبَاعًا كَامِلًا فَهُوَ مِن أَولِيَاءِ اللهِ، مِن أَحبَابِ اللهِ، الَّذِينَ لَاخَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ). وَرَغمَ انشِغَالِهِ بِنَشرِ العِلمِ وَالدَّعوَةِ إِلَى اللهِ فَقَد تَرَكَ كُتُبًا وَءَاثَارًا وَمُؤَلَّفَاتٍ كَثِيرَةً وَقَيِّمَةً.
وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ حَاضِرَ الذِّهنِ قَوِيَّ الحُجَّةِ سَاطِعَ الدَّلِيلِ، حَكِيمًا، ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ فِي الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَكَانَ يُوصِي تَلَامِيذَهُ فَيَقُولُ: (أُوصِيكُم بِمَا وَصَّى بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى الأَشعَرِيَّ وَمُعَاذًا بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا حِينَ وَجَّهَهُمَا إِلَى اليَمَنِ قَالَ: (يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا)).
وَتَمتَدّ مَسِيرَةُ الشَّيخِ عَبدِ اللهِ الهَرَرِيِّ فِي العِلمِ وَالتَّعلِيمِ لِأَكثَرَ مِن تِسعِينَ عَامًا قَضَاهَا فِي العِلمِ وَالعَمَلِ، وَرَغمَ تَقَدُّمِهِ فِي السِّنِّ كَانَ مُستَمِرًّا فِي العَمَلِ الدَّؤُوبِ فِي سَبِيلِ نَشرِ عِلمِ الدِّينِ الصَّافِي البَعِيدِ عَنِ الغُلُوِّ وَالتَّطَرّفِ، وَكَانَ يَعِظُ نَفسَهُ وَمُرِيدِيهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فَيَقُولُ: (لَا يَزَالُ العَبدُ بِخَيرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِن نَفسِهِ وَكَانَتِ المُحَاسَبَةُ مِن هِمَّتِهِ). وَبَعدَ حَيَاةِ عَطَاءٍ طَوِيلَةٍ مَلِيئَةٍ بِالعِلمِ وَالتَّعلِيمِ وَالإِصلَاحِ تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فَجرَ يَومِ الثُّلَاثَاءِ فِي الثَّانِي مِن رَمَضَانَ عَامَ 1429 هِجرِيَّة المُوَافِقِ لِلثَّانِي مِن أَيلُولَ عَامَ 2008 فِي مَنزِلِهِ فِي بَيرُوتَ عَن ثَمَانِيَةٍ وَتِسعِينَ عَامًا فَلَم يَترُك مَالًا وَأملَاكًا بَل تَرَكَ وَرَاءَهُ إِرثًا عَظِيمًا فِي عِلمِ الدِّينِ وَالدَّعوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.